الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الزمخشري: سورة الطارق مكية، وآياتها 17، نزلت بعد البلد.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.[الطارق: الآيات 1- 3] {وَالسماء وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)}النَّجْمُ الثَّاقِبُ المضيء، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، كما قيل: درّيء، لأنه يدرؤه، أى: يدفعه. ووصف بـ: {الطارق}، لأنه يبدو بالليل، كما يقال للآتى ليلا: طارق: أو لأنه يطرق الجنى، أي يصكه. والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهب التي يرجم بها.فإن قلت: ما يشبه قوله: {وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} إلا ترجمة كلمة بأخرى، فبين لي أي فائدة تحته؟قلت: أراد اللّه عز من قائل: أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيما له، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة، وأن ينبه على ذلك فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره، وهو الطارق، ثم قال: {وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ}؟ ثم فسره بقوله: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} كل هذا إظهار لفخامة شأنه، كما قال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.روى «أنّ أبا طالب كان عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فانحط نجم، فامتلأ ما ثم نورا. فجزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا؟ فقال عليه السلام: هذا نجم رمى به، وهو آية من آيات اللّه، فعجب أبو طالب، فنزلت»..[الطارق: آية 4] {إن كل نفس لما عليها حافظ} (4).فإن قلت: ما جواب القسم؟قلت {إن كل نفس لما عليها حافظ} لأنّ (إن) لا تخلو فيمن قرأ {لما} مشددة، بمعنى: إلا أن تكون نافية. وفيمن قرأها مخففة على أن (ما) صلة تكون مخففة من الثقيلة، وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم، حافظ مهيمن عليها رقيب، وهو اللّه عز وجل {وَكانَ اللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً}، {وَكانَ اللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} وقيل: ملك يحفظ عملها ويحصى عليها ما تكسب من خير وشر.وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين»..[الطارق: الآيات 5- 7] {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مم خلق (5) خلق مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصلب وَالترائب (7)}.فإن قلت: ما وجه اتصال قوله: {فَلْيَنْظُرِ} بما قبله؟قلت: وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى، حتى يعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته، و{مم خلق} استفهام جوابه {خلق مِنْ ماءٍ دافِقٍ} والدفق: صبّ فيه دفع. ومعنى دافق: النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق، كاللابن والتامر. أو الاسناد المجازى. والدفق في الحقيقة لصاحبه، ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه {مِنْ بَيْنِ الصلب وَالترائب} من بين صلب الرجل وترائب المرأة: وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة. وقرئ: {الصلب}- بفتحتين، و{الصلب} بضمتين. وفيه أربع لغات: صلب، وصلب، وصلب وصالب.قال العجاج:وقيل: العظم والعصب من الرجل، واللحم والدم من المرأة. .[الطارق: الآيات 8- 10] {إِنَّهُ على رجعه لقادر (8) يوم تبلى السرائر (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصر (10)}.{إِنَّهُ} الضمير للخالق، لدلالة خلق عليه. ومعناه: إنّ ذلك الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة {على رجعه} على إعادته خصوصا {لقادر} لبين القدرة لا يلتاث عليه ولا يعجز عنه. كقوله: إننى لفقير {يوم تبلى} منصوب بـ: {رجعه}، ومن جعل الضمير في {رجعه} للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من {الصلب والترائب} أو الإحليل. أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بمضمر {السرائر} ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال. وبلاؤها. تعرّفها وتصفحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث. وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد:فقال: ما أغفله عما في {وَالسماء وَالطَّارِقِ}؟ {فَما لَهُ فما للإنسان مِنْ قُوَّةٍ} من منعة في نفسه يمتنع بها {وَلا ناصر} ولا مانع يمنعه. .[الطارق: الآيات 11- 14] {وَالسماء ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقول فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بالهزل (14)}.سمى المطر رجعا، كما سمى أوبا.قال:تسمية بمصدرى: رجع، وآب، وذلك أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض. أو أرادوا التفاؤل فسموه رجعا. وأوبا، ليرجع ويؤب.وقيل: لأنّ اللّه يرجعه وقتا فوقتا. والصدع: ما يتصدّع عنه الأرض من النبات {إِنَّهُ} الضمير للقرآن {فَصْلٌ} فاصل بين الحق والباطل، كما قيل له فرقان {وَما هُوَ بالهزل} يعنى أنه جدّ كله لا هوادة فيه. ومن حقه- وقد وصفه اللّه بذلك- أن يكون مهيبا في الصدور، معظما في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه وأن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وأن يلقى ذهنه إلى أنّ جبار السماوات يخاطبه فيأمره وينهاه، ويعده وبوعده، حتى إن لم يستفزه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل، فقد نعى اللّه ذلك على المشركين في قوله: {وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ}، {وَالْغَوْا فِيهِ}. .[الطارق: الآيات 15- 17] {إِنَّهُمْ يكيدون كيداً (15) وَأَكِيدُ كيداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)}.{إِنَّهُمْ} يعنى أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر اللّه وإطفاء نور الحق، وأنا أقابلهم بكيدى: من استدراجى لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار منهم {فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ} يعنى لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي إمهالا يسيرا، وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير.عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الطارق أعطاه اللّه بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات». اهـ..قال الماوردي: قوله تعالى: {والسماء والطارقِ}هما قسمَان: {والسماء} قَسَمٌ، {والطارقِ} قَسَمٌ.{الطارق} نجم، وقد بيّنه الله تعالى بقوله: {وما أدْراكَ ما الطارقُ النجْمُ الثّاقبُ} ومنه قول هند بنت عتبة:تقول: نحن بنات النجم افتخاراً بشرفها، وإنما سمي النجم طارقاً لاختصاصه بالليل، والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقاً، قال الشاعر: وأصل الطرق الدق، ومنه سميت المطرقة، فسمي قاصد الليل طارقاً لاحتياجه في الوصول إلى الدق.وفي قوله: {النجم الثاقب} ستة أوجه:أحدها: المضيء، قاله ابن عباس.الثاني: المتوهج، قاله مجاهد.الثالث: المنقصّ، قاله عكرمة.الرابع: أن الثاقب الذي قد ارتفع على النجوم كلها، قاله الفراء.الخامس: الثاقب: الشياطين حين ترمى، قاله السدي.السادس: الثاقب في مسيره ومجراه، قاله الضحاك.وفي هذا النجم الثاقب قولان:أحدهما: أنه زُحل، قاله على.الثاني: الثريّا، قاله ابن زيد.{إن كل نفس لما عليها حافظ} فيه وجهان:أحدهما: {لما} بمعنى إلاّ، وتقديره: إنْ كل نفس إلاَّ عليها حافظ، قاله قتادة.الثاني: أن (ما) التي بعد اللام صله زائدة، وتقديره: إن كل نفس لعليها حافظ، قاله الأخفش.وفي الحافظ قولان:أحدهما: حافظ من الله يحفظ عليه أجله ورزقه، قاله ابن جبير.الثاني: من الملائكة يحفظون عليه عمله من خير أو شر، قاله قتادة.ويحتمل ثالثاً: أن يكون الحافظ الذي عليه عقله، لأنه يرشده إلى مصالحه، ويكفّه عن مضاره.{يَخْرُجُ مِنْ بَيْن الصلب والتّرائِب} فيه قولان:أحدهما: من بين صلب الرجل وترائبه، قاله الحسن وقتادة.الثاني: بمعنى أصلاب الرجال وترائب النساء.وفي {الترائب} ستة أقاويل:أحدها: أنه الصدر، قاله ابن عياض، ومنه قول دريد بن الصمة. الثاني: ما بين المنكبين إلى الصدر، قاله مجاهد.الثالث: موضع القلادة، قاله ابن عباس، قال الشاعر: الرابع: أنها أربعة أضلاع من الجانب الأسفل، قاله ابن جبير، وحكى الزجاج أن {الترائب} أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر.الخامس: أنها بين اليدين والرجلين والعينين، قاله الضحاك.السادس: هي عصارة القلب، قاله معمر بن أبي حبيبة.{إنّه على رجعه لقادرٌ} فيه خمسة أوجه:أحدها: على أن يرد المني في الإحليل، قاله مجاهد.الثاني: على أن يرد الماء في الصلب، قاله عكرمة.الثالث: على أن يرد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة، قاله الضحاك.الرابع: على أن يعيده حيّاً بعد موته، قاله الحسن وعكرمة وقتادة.الخامس: على أن يحبس الماء فلا يخرج.ويحتمل سادساً: على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة لأن الكفار يسألون الله فيها الرجعة.{يوم تبلى السّرائرُ} أي تَظْهَر.ويحتمل ثانياً: أن تبتلى بظهور السرائر في الآخرة بعد استتارها في الدنيا.وفيها قولان:أحدهما: كل ما استتر به الإنسان من خير وشر، وأضمره من إيمان أو كفر، كما قال الأحوص: الثاني: هو ما رواه خالد عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأمانات ثلاث: الصلاة والصوم والجنابة، استأمن الله ابن آدم على الصلاة، فإن شاء قال: قد صليت ولم يُصلّ، استأمن الله ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال: قد صمت ولم يصم، استأمن الله ابن آدم على الجنابة، فإن شاء قال: قد اغتسلت ولم يغتسل، اقرؤوا إن شئتم: {يوم تبلى السرائر}».{فما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصَرٍ} فيه قولان:أحدهما: أن القوة العشيرة، والناصر: الحليف، قاله سفيان.الثاني: {فما له من قوة} في بدنه، {ولا ناصر} من غيره يمتنع به من الله، أو ينتصر به على الله، وهو معنى قول قتادة.ويحتمل ثالثاً: {فما له من قوة} في الامتناع، {ولا ناصر} في الاحتجاج.{والسماء ذاتِ الّرجْعِ} فيه أربعة أقاويل:أحدها: ذات المطر، لأنه يرجع في كل عام، قاله ابن عباس.الثاني ذات السحاب، لأنه يرجع بالمطر.الثالث: ذات الرجوع إلى ما كانت، قاله عكرمة.الرابع: ذات النجوم الراجعة، قاله ابن زيد.ويحتمل خامساً: ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد، وهذا قَسَمٌ.{والأرضِ ذاتِ الصّدْعِ} فيها أربعة أقاويل:أحدها: ذات النبات لأنصداع الأرض عنه، قاله ابن عباس.الثاني: ذات الأودية، لأن الأرض قد انصدعت بها، قاله ابن جريج.الثالث: ذات الطرق التي تصدعها المشاة، قاله مجاهد.الرابع: ذات الحرث لأنه يصدعها.ويحتمل خامساً: ذات الأموات، لأنصداعها عنهم للنشور وهذان قسمان:{إنّهُ لَقول فَصْلٌ} على هذا وقع القَسَمُ، وفي المراد بأنه قول فصل قولان:أحدهما: ما قدّمه عن الوعيد من قوله تعالى: {إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر} الآية. تحقيقاً لوعيده، فعلى هذا في تأويل قوله: {فَصْل} وجهان:أحدها: حد، قاله ابن جبير.الثاني: عدل، قاله الضحاك.القول: ان المراد بالفصل القرآن تصديقاً لكتابه، فعلى هذا في تاويل قوله: {فصل} وجهان:أحدهما: حق، قاله ابن عباس.الثاني: ما رواه الحارث عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتاب الله فيه خير ما قبلكم، وحكم ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه مِن جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله».{وما هو بالهزْلِ} وهذا تمام ما وقع عليه القسم، وفيه ثلاثة أوجه:أحدها: باللعب، قاله ابن عباس ومجاهد.الثاني: بالباطل، قاله وكيع والضحاك.الثالث: بالكذب، قاله السدي.{إنّهم يكيدون كيْداً} يعني أهل مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وإذ يمْكَرُ بك الذين كَفَروا لِيُثْبِتوكَ أو يَقتلوكَ أو يُخْرِجوكَ} فقال ها هنا: {إنهم يكيدون كيداً} أي يمكرون مكراً.{وأكيدُ كيْداً} يعني بالانتقام في الآخرة بالنار، وفي الدنيا بالسيف.{فمهّلِ الكافرين أَمْهِلْهم رُوَيْداً} فيه ثلاثة أوجه:أحدها: قريباً، قاله ابن عباس.الثاني: انتظاراً، ومنه قول الشاعر: الثالث: قليلاً، قاله قتادة.قال الضحاك: فقتلوا يوم بدر.وفي {مهّل} (وأمْهل) وجهان:أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد.الثاني: معناهما مختلف، فمهّل الكف عنهم، وأمْهِل انتظار العذاب لهم. اهـ.
|